نموذج المعرفة والتغيير الاجتماعى: الأسس العلمية وحالات تطبيقية – د. فرج الكامل

The model was first presented in Farag Elkamel, “Knowledge and Social Change: The Case of Family Planning.” Ph.D. Dissertation, The University of Chicago Department of Sociology, 1981.

It was also published in Arabic in:

دكتور فرج الكامل: تأثير وسائل الاتصال – الأسس النفسية والاجتماعية. دار الفكر العربى 1985

Website for more information on the model and methodology: https://elkamel.wordpress.com/

YouTube channel for professional model applications: https://www.youtube.com/Farag Elkamel

______________________________________________________

مقدمة

نقطة البداية الأساسية ـ أو البديهية الأساسية ـ فى النموذج هى أن المعرفة تعد أساس السلوك الإنساني. وبالنسبة للغالبية العظمى من القضايا والأشياء، فان معظم الناس يعرفون القليل ـ أو لا يعرفون شيئا ـ عن هذه القضايا أو الأشياء أو كيفية التصرف حيالها. ومن مسلمات النموذج أيضا أن الإنسان يسلك مسلكا خاصا دون غيره فى الحياة بناء على كمية ونوع المعرفة التى لديه.

المعرفة، الإتصال، والوضع الإجتماعى ـ الإقتصادى للفرد

المدخل الحالى يفترض أن المعرفة التى لدينا عن الأشياء أو الأشخاص تتكون عن طريق اشتراكنا فى عملية الإتصال، سواء كان الإتصال مواجهيا أو جماهيريا. ولما كنا نفترض أن المعرفة هى أساس السلوك الإنساني، فإننا نستطيع القول بأن السلوك يتم التأثير عليه عن طريق الإتصال. ولكن الإتصال ـ من ناحية أخرى ـ يرتبط بعدد من العوامل الإقتصادية والإجتماعية التى تحدد نوعه ومداه. من هنا، فان النموذج يطرح عددا من التساؤلات التى تعد الإجابة عليها أساسية لفهم دور الإعلام فى التغيير والتنمية الإجتماعية:

المعرفة والسلوك

إذا ما اتفقنا على الحقيقة الأساسية التى مؤداها أن المعرفة يتم تحصيلها عن طريق الإتصال، فإننا نستطيع أن نكتشف ما إذا كانت المعرفة بشيء أو بفكرة أو بشخص ما تؤثر على السلوك نحو هذه الشيء أو الفكرة أو الشخص.

هذه العلاقة بين المعرفة والسلوك مبنية على الاعتقاد الراسخ بأن الذين لا يقومون بأى سلوك نحو شيء ما غالبا ما يفتقرون إلى القدرة على معرفة أو دراسة هذا الشيء وإمكانية السلوك نحوه. وبالتالى فان الفرد لا يستطيع أن يكون إعتقادات أو نوايا سلوكية ليقوم بسلوك معين نحو شيء يجهله .

وطبقا لهذا المدخل، فان الإختلافات فى المعرفة بين الأفراد ترجع إلى عاملين أساسيين: الأول هو الإختلافات فى درجات ونوعيات التعرض للإتصال، والثانى هو الاختلاف فى الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية. وعلاوة على ذلك، فان درجات ونوعيات التعرض للإتصال ترتبط بدورها بالأوضاع الإجتماعية والإقتصادية للفرد. وبالنسبة للسلوك نحو شيء أو قضية ما، فإننا نستطيع أن نجد أن:

ومن هنا، فإننا نستطيع القول بأن السلوك يتأثر بالمعرفة، التى تتأثر بدورها بالمتغيرات الإتصالية والمتغيرات الإجتماعية ـ الإقتصادية من ناحية، وبالتفاعل بين المتغيرات الإتصالية والمتغيرات الإجتماعية والإقتصادية من الناحية الأخرى.

العوامل الوسيطة

برغم الأهمية القصوى للمعرفة فى تحديد السلوك، إلا أننا لا يجب أن نتوقع علاقة مباشرة بين المتغيرين. ففى كثير من الأحيان توجد هناك أسباب ـ أو متغيرات ـ تحول دون تحول المعرفة إلى سلوك فعلى، من العوامل الوسيطة التى يحددها النموذج:

والشيء المهم الذى تجدر الإشارة إليه هنا هو أن الفئتين الأخيرتين من المتغيرات الوسيطة ـ المتغيرات القيمية والاتجاهيةـ تتأثران إلى حد كبير بالمتغيرات الإتصالية التى تحدثنا عنها ـ وهى التى تتصل بكمية ونوعية التعرض للإتصال. ومن ناحية أخرى فان العوامل أو المتغيرات المساعدة ترتبط إلى حد كبير بالمتغيرات الإقتصادية والإجتماعية.

وكان أول اختبار عملى لهذا النموذج فى عام 1981 عندما طبقه المؤلف على قضية تنظيم الأسرة فى مصر.

وقد كان الفرض العلمى الأساسى للدراسة عن تنظيم الأسرة هو أن الشخص الذى يعيش فى مناطق حضرية، المتعلم، المرتفع الدخل، والذى ينتمى إلى ذوى الياقات البيضاء، لا يتوقع أن يكون أكثر استخداما لتنظيم الأسرة أكثر من الشخص الريفى، الأمى، الفقير، الذى يعمل فلاحا أو عاملا، إلا إذا كان الشخص الأول أكثر معرفة بوسائل تنظيم الأسرة من الشخص الثانى. أى أن العوامل الإجتماعية والإقتصادية فى حد ذاتها ليست هى التى تجعل الفرد يسلك سلوكا معينا. بل إن ما يؤدى بالفرد إلى السلوك بشكل معين دون غيره هو أن تلك العوامل الإجتماعية والإقتصادية تؤدى بالفرد إلى اكتساب المعرفة بشكل يختلف طبقا لاختلاف تلك الظروف الإجتماعية والإقتصادية.

وما قلناه هنا ينطبق تماما على المتغيرات الإتصالية. فليس المهم هو الإشتراك فى التعرض للإتصال، إذا كان هذا الإشتراك ليس من النوع الذى يؤدى إلى زيادة المعرفة. وقد جاءت النتائج مؤكدة للفروض العلمية المبنية على النموذج، ووجد المؤلف أن التفاعل بين العوامل الإجتماعية والإقتصادية وبين المتغيرات الاتصالية يؤدى إلى التأثير على مستوى المعرفة لدى الفرد. فالطبقات الفقيرة والأميون والريفيون والفلاحون يستمعون فى الإذاعة إلى برامج يغلب عليها الطابع الترفيهى، فى حين يستمع المتعلمون والذين يعيشون فى المناطق الحضرية إلى برامج يغلب عليها أكثر الطابع المعلومى. هذا بالإضافة بالطبع إلى عدم تعرض الأميين أو الفقراء أو الريفيين إلى أى من وسائل الإعلام بنفس الدرجة التى يتعرض بها الأغنياء أو المتعلمون أو سكان المدن لهذه الوسائل.

وهذا النموذج ينبه إلى أن المهم ليس وجود برامج أو حملات إعلامية فى حد ذاتها، وإنما المهم هو كيف تتم هذه الحملات وكيف تراعى هذا الارتباط بين المعرفة ـ الإتصال ـ العوامل الإجتماعية والإقتصادية ـ والسلوك. ومراعاة هذا الارتباط بين عناصر النموذج يهدف فى نهاية الأمر إلى إحداث التنمية الإجتماعية بشكل متوازن، وحيث هى مطلوبة بشكل أكثر إلحاحا. وفى الواقع، فإننا نشبه ما يحدث فى كثير من الحملات الإعلامية آلتي تتم فى غيبة من الوعى بهذا التفاعل بين تلك العناصر بما يحدث ـ على سبيل المثال ـ حينما ندعم بعض السلع التموينية التى ينتهى الأمر بها أن تكون متوافرة لدى القادرين أكثر من توافرها لدى ذوى الحاجة الماسة إليها. وباختصار شديد فان المعرفة هى رغيف الخبز الأساسى الذى يجب أن نجعله متاحا للفقراء والأميين والريفيين ـ من أجل إحداث التنمية الإجتماعية والمتكافئة.

لقد ساد الاعتقاد لفترة طويلة فى بداية تطور الدراسات الإعلامية بقدرة الإعلام على عمل المعجزات، وتطورت نظريات سميت فيما بعد بنظريات ”الرصاصة“، لاعتقادها بالتأثير المباشر والحتمى للإعلام. وكرد فعل لهذا التبسيط الشديد لدور الإعلام، تطورت عدة نظريات وأفكار تؤمن بأن الجمهور ”عنيد“ ولا يتأثر كثيرا بالإعلام، وأنه يعتمد كثيرا على ”ميكانيزمات الدفاع عن النفس“ وخصوصا العمليات الانتقائية مثل التعرض الانتقائى والإدراك الانتقائى والتذكر الانتقائى لمضمون الإعلام.

وسادت إعتقادات بأن فشل الإعلام فى إدخال الأفكار الحديثة وفى تغيير المفاهيم الخاطئة إنما يرجع لعناد الجمهور نفسه، وتمسكه بالاتجاهات والآراء القديمة. ولكن هذا الاتجاه بدأ هو الآخر فى التوارى تدريجيا، وبدأ اتجاه ثالث فى الظهور، وساعد على ذلك عدة أمور أهمها حقيقتان: الأولى هى اكتشاف أهمية الانتقاء المفروض للإعلام والثانية هى وجود فجوة فى المعرفة والسلوك تنتج عن التعرض لوسائل الإعلام.

وهاتان الحقيقتان مرتبطتان إلى حد كبير، ذلك أن وسائل الإعلام تلعب دورا خطيرا فى خلق فجوة المعرفة وذلك عن طريق ”تعريض“ فئات محددة من الجمهور للمعلومات دون غيرها من فئات المجتمع. وهناك أشكال عديدة تؤثر وسائل الإعلام عن طريها فى إيجاد هذه الفجوة والإبقاء عليها، ومنها شكل الرسالة الإعلامية، ومستواها اللغوى، وتوقيت إذاعتها أو مكان نشرها.

فجوة المعرفة

تطور الفرض العلمى عن ”فجوة المعرفة على يد تيتشنر Tichenor وزملائه عندما وجدوا أنه ”كما زادت كثافة المعلومات فى وسائل الإعلام فى نظام إجتماعى معين، كلما زاد اكتساب الفئات الإجتماعية ذات المستويات المرتفعة اقتصاديا وإجتماعيا للمعلومات بشكل يفوق بكثير اكتساب الفئات الإجتماعية الأخرى لهذه المعلومات، مما يؤدى إلى زيادة اتساع الفجوة فى المعرفة بين هذه الفئات المختلفة“ (تيتشنر، 1981).

ويمكن قياس فجوة المعرفة بطريقتين: الأولى فى لحظة زمنية محددة، والثانية خلال فترة زمنية ممتدة. وقد وجد تيتشنر وزملاؤه أنه فى كلتا الحالتين فان الإختلافات فى مستويات المعرفة توازى الإختلافات فى مستويات التعليم. وقد وجد باحثون آخرون أن هناك عوامل أخرى ترتبط بفجوة المعرفة، مثل الأمية والعنصر والديانة والوظيفة والمستوى الإقتصادى

وقد حدد الباحثون فى مجال الإعلام عوامل عديدة تساعد على تكوين فجوة المعرفة، ومن هذه العوامل:

وبالإضافة إلى هذه العوامل، فان من الأسباب التى تساعد على زيادة فجوة المعرفة، وخصوصا فى الدول النامية، هو إيمان الكثيرين من القائمين على شئون الإتصال فى تلك الدول بالعمل من خلال عدد محدود ممن يسمون” قادة الرأى“. ذلك أن الكثيرين قد تأثروا بما يدعى ”انتشار المعلومات على مرحلتين“، فى الوقت الذى وجد فيه باحثون عديدون أن القليل جدا من المعلومات ينتقل إلى الجمهور العريض من خلال قادة الرأى هؤلاء، بل وجدت بعض الأبحاث أن ما قام قادة الرأى بتوصيله إلى الجمهور كان مشوها إلى حد كبير.

ولا يقتصر تأثير فجوة المعرفة على إحداث فجوة مماثلة فى السلوك، بل يتعدى ذلك إلى طبيعة النظام الإجتماعى وسلامته، ذلك أنه فى الوقت الذى تصل فيه المعلومات بشكل سريع إلى فئة قليلة من المجتمع تستفيد من هذه المعلومات فى تدعيم قوتها اقتصاديا وسياسيا وإجتماعيا، فان الذين لا يتمتعون بهذه الميزة يدفعون الثمن ويزداد ضعفهم النسبى فى المجتمع. وتتمثل خطورة هذا الوضع فى إحداث حالة من الإحباط والحرمان النسبى والفشل بين الفئات المحرومة فى المجتمع، مما قد يؤدى إلى حدوث العنف أو الثورة.

التفاعل بين المعرفة والإتصال والوضع الإجتماعى الإقتصادى

مفهوم ”المعرفة“ يختلف منهجيا عن مفاهيم أخرى شبيهة، مثل ”الوعى“ أو ”الإعتقاد“. أما الاختلاف بين المعرفة والوعى فانه يتمثل فى كون الوعى شكلا واحدا من أشكال ثلاثة أساسية للمعرفة. كذلك فان ”المعرفة“ تختلف عن ”الإعتقاد“ فى كون المعرفة تخضع للحكم عليها بالخطأ أو الصواب على أساس موضوعى مجرد، فى حين أن الإعتقادات لا يمكن أن تخضع لذلك. ومفهوم ”المعرفة“ كما يستخدم هنا قريب إلى حد كبير من مفهومها عند روجرز وشوميكر (Rogers and Shoemaker, 1971) ، حيث حددا ثلاثة أشكال للمعرفة:

ويمكن النظر إلى هذه الأنماط الثلاثة للمعرفة على أنها مراحل مختلفة، تقع مرحلة “الوعى” فى أدناها، وتعتبر مرحلة “معرفة المبادىء” أكثرها رقيا. ومن البديهى أن المرحلة الأولى وحدها لا تكفى لكى يقوم الفرد بسلوك معين على أساسها إزاء الشيء موضع المعرفة، بل يجب أن يتحقق المستوى الثانى على الأقل، أى “معرفة الكيفية” قبل أن يكون للمعرفة تأثير ملموس على السلوك.

والمعرفة عامل مستقل وتابع فى نفس الوقت. ذلك أن المعرفة عامل مستقل يؤثر على السلوك، ولكنها فى نفس الوقت عامل تابع يتأثر بالإتصال كما يتأثر بالوضع الإجتماعى الإقتصادى للفرد.

وبالإضافة إلى تأثير المعرفة بكل من الإتصال والعوامل الإجتماعية والإقتصادية، فان هناك تأثيرا متبادلا بين هذين العاملين. وهكذا فان التفاعل والتأثير المتبادل بين المعرفة والإتصال والوضع الإجتماعى- الإقتصادى يؤثر على المعرفة ويسبب فجوة فيها بين الفئات المختلفة.

ولا يقتصر تأثير العلاقات بين هذه العوامل على إحداث فجوة المعرفة، بل يتعدى ذلك إلى إحداث فجوة فى السلوك، والسبب الأساسى لذلك هو العلاقة الوثيقة بين المعرفة والسلوك. ومن البديهى أن العلاقة بين المعرفة والسلوك تتأثر أحيانا بعوامل أخرى، أى أن الفرد قد تكون لديه المعرفة ولكنه لا يتصرف على أساسها. ويمكن تسمية هذه العوامل التى تؤثر على العلاقة بين المعرفة والسلوك بالعوامل الوسيطة، وأهم هذه العوامل هى:

ومن الضرورى دراسة مدى تأثير كل من هذه العوامل على إمكانية سلوك الفرد، والعمل على التغلب على العقبات التى يمثلها كل منها. وتجدر الإشارة إلى أن الإعلام يستطيع بالإضافة إلى التأثير على عنصر المعرفة أن تؤثر أيضا على الاتجاه وعلى إدراك العرف الإجتماعى السائد، ولكنه لا يستطيع التغلب على العقبات المرتبطة بالعوامل الديموجرافية أو العوامل البديهية.

التغيير الإجتماعى فى النموذج

لقد عرفنا مفهوم “المعرفة” بأنه أى معلومات يمكن الحكم عليها بالخطأ أو الصواب. ولكن هذا التعريف ليس تعريفا جامدا فيما يتعلق بأى فكرة أو معلومة محددة، ذلك أن ماهو صواب فى مكان معين قد يكون خطأ فى مكان آخر، وماهو صحيح اليوم قد يثبت خطؤه غدا. فعلى سبيل المثال، كان علاج مرض الجفاف عن طريق الحقن هو الطريقة الفعالة حتى وقت قريب، عندما تم اكتشاف أن إضافة الملح والسكر بنسب محددة يزيد الامتصاص فى الأمعاء مئات المرات، مما أدى إلى اكتشاف أن محلول الإرواء عن طريق الفم أكثر فعالية من طريقة الحقن بالوريد. ومن ثم فان المعلومة التى كانت صحيحة من عدة سنوات ليست صحيحة اليوم. ولكن طريقة العلاج الجديدة ظلت لعدة سنوات معروفة لعدد محدود جدا من العاملين بالمجال الصحى وعامة الشعب، وكانت هناك فجوة كبيرة بين كبار الأطباء من ناحية وبقية الأطباء من ناحية أخرى، وبين المتعلمين وغير المتعلمين. وعلى مستوى مختلف، فان هناك أيضا فجوة فى المعرفة بين المجتمعات المختلفة.

وهكذا فان فجوة المعرفة تنشأ لأن فئات معينة فى مجتمع بعينه تكتسب المعرفة أسرع من غيرها من الفئات، وكلما زادت المعلومات فى مجتمع ما كلما تعددت فجوات المعرفة فى ذلك المجتمع.  وما يزيد الطين بلة، أن المجتمع الذى نعيش فيه مجتمع سريع التطور، وأن المعلومات يمكن أن تتغير بسرعة فائقة مما يتسبب فى وصول معلومات إلى بعض طبقات المجتمع بعد أن تكون قد أصبحت معلومات غير صحيحة، فى الوقت الذى تكون فيه فئات أخرى قد اكتسبت معلومات جديدة مختلفة. ويؤدى ذلك النظام إلى ازدياد هوة الفجوة فى المعرفة بين فئات المجتمع المختلفة، والى وجود فجوات أخرى بين هذه الفئات نتجت عن فجوة المعرفة هذه.

الخلاصة هى أن المعلومات تتغير بسرعة، ولكن هذا التغيير لا يصل بنفس السرعة لكافة فئات المجتمع، ومن ثم فان فجوة المعرفة تتزايد باستمرار فى الوقت الذى ترتبط فيه المعرفة بعوامل أخرى تؤثر على المستوى الإجتماعى والاقتصادى للفرد. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا النموذج، والذى تطور فى مصر كإحدى الدول النامية، يختلف عن النماذج الأخرى فى كونه يفترض أن التقدم أو التغير الإجتماعى ليس بالضرورة تغيرا نحو تحقيق النظام الإجتماعى الموجود فى المجتمعات الغربية، وهو ما تفترضه نماذج أخرى محددة مثل نماذج ليرنر وروجرز وغيرهما.

وجد معظم علماء الإجتماع المهتمين بالدراسات السكانية ومشكلة تنظيم الأسرة علاقة إحصائية إيجابية بين سلوك تنظيم الأسرة والوضع الإجتماعى والاقتصادى للفرد، مثل التحضر والدخل والتعليم، الخ. وفى الواقع، فان العلاقة بين تنظيم الأسرة والعوامل الإجتماعية والإقتصادية هى علاقة ذات اتجاهين، بمعنى أن كلا من هذين المتغيرين يؤثر فى الآخر، ذلك أنه كلما تحسن الوضع الإجتماعى والاقتصادى كلما زادت ممارسة تنظيم الأسرة، وكلما زادت ممارسة تنظيم الأسرة تحسن الوضع الإجتماعى والاقتصادى للأسرة. ولسنوات طويلة احتدم الخلاف بين فريقين من علماء الإجتماع والسكان، يؤمن أحدهما بأن المشكلة السكانية سوف تحل نفسها بنفسها وذلك عندما يتحسن الوضع الإجتماعى والاقتصادى، ويؤمن الفريق الآخر بأن المشكلة السكانية لابد من حلها أولا حتى تستطيع جهود التنمية أن تثمر فى تحسين الوضع الإجتماعى والاقتصادى.

وفى الواقع فان هذين المدخلين اللذين سيطرا على دراسات السكان وتنظيم الأسرة لفترة طويلة يجعلان من العلاقة بين الظروف الإجتماعية والإقتصادية من ناحية، وتنظيم الأسرة من ناحية أخرى، ما يشبه العلاقة بين البيضة والدجاجة، حيث أنه من الصعب تحديد أيهما يسبق الآخر.

ولكن ما يهمنا هنا هو كيفية التدخل فى هذه العلاقة، والدور الذى يستطيع الإعلام أن يقوم به، بدلا من الجدل العقيم حول تلك العلاقة التبادلية. فالمهم ليس هو إثبات وجود علاقة فى اتجاه ما دون الآخر، ولكن ما يهمنا هو البحث عن الميكانيزم الذى عن طريقه يؤثر الوضع الإجتماعى والاقتصادى فى السلوك الانجابى، ولنترك العلاقة الأخرى لعلماء الاقتصاد كى يبحثوا كيفية تأثير السلوك الإنجابي على الوضع الإقتصادى والإجتماعى.

وبالنسبة لتأثير العوامل الإجتماعية والإقتصادية على السلوك الإنجابي، فقد اكتفى الديموجرافيون بإثبات وجود معامل ارتباط  بين المتغيرين، دون أن يهتموا كثيرا بأسباب و كيفية حدوث ذلك الارتباط، ولم يستطيعوا، على سبيل المثال، تفسير حدوث ارتباط إيجابي بين الدخل وتنظيم الأسرة فى معظم المجتمعات.ويقدم نموذج المعرفة والتغيير الإجتماعى تفسيرا لتلك العلاقة، حيث تمثل المعرفة الميكانيزم الذى من خلاله تقوم العوامل الإجتماعية والإقتصادية المختلفة بالتأثير على السلوك. فالانتقال إلى الحضر، وزيادة التصنيع فى المجتمع يؤديان إلى كثافة السكان فى مساحات جغرافية صغيرة، مما يزيد من فرص الإتصال  الشخصى والجماهيرى، ويزيد من فرص التعليم والتدريب. كذلك فان مستوى التعليم والدخل يعملان على زيادة إمكانيات الحصول على المعلومات من وسائل الأعلام وغيرها من المصادر المستحدثة.

وهكذا فان التفاعل بين العوامل الإجتماعية والإقتصادية من ناحية، وعوامل الإتصال من ناحية أخرى، يفرز درجات متفاوتة من المعرفة لدى الفرد، وهو ما يؤثر على سلوكه تجاه الأشياء والأفراد الآخرين فى البيئة التى يعيش فيها. ومن ثم، فان أهمية العوامل الإجتماعية والإقتصادية فى تحديد السلوك الإنجابي ترتبط بدور هذه العوامل فى التأثير على مستوى المعرفة لدى الفرد، فيما يتعلق بتنظيم الأسرة ووسائله المختلفة. وبالطبع فان التأثير على المعرفة يتم أيضا من خلال التفاعل بين العوامل الإجتماعية والإقتصادية وعوامل الإتصال.

وتتبقى هناك إشكاليتان نظريتان إضافيتان إذا ما أردنا التأثير علىى المعرفة، وبالتبعية على االسلوك.  الأولى، وفقا لما ذكره إفرت روجرز فى نظريته عن انتشار المستحدثات، تدعى بأن وسائل الاتصال الجماهيرى تفيد فقط فى نشر المعرفة، بينما يكون الاتصال المباشرهو القادرعلى الإقناع وتغييرالسلوك.

اما الإشكالية الثانية، فهى قوله ايضا بأن الحملات الإعلامية تؤدى إلى إحداث أو زيادة فجوة فى المعرفة والسلوك، بحيث تستفيد منها الشرائح الاجتماعية والاقصادية “العليا” أكثر من الشرائح الدنيا.

ولكن نموذج “المعرفة والتغيير الاجتماعى” تغلب ايضا على هاتين الاشكاليتين، كما تغلب على اشالية عدم قدرة الديموجرافيين على تحديد الميكانزم الذى من خلاله تؤثرالعوامل الاجتماعيه ـ الاقتصادية على السلووك الانجابى .

ذلك انه وفقا لنموذج “المعرفة والتغيير الاجتماعى”. فان الاشكالية الحقيقية هى التخطيط والاستخدام السئ لوسائل الاتصل الجماهيرى ، وليسس قصور او محدودية قدرات هذه الوسائل فى حد ذاتها، وهو ما سوف نقوم باثباته فى الاختبارات البحثية والتطبيقية للنموذج والتى نعرضها فيما يلي.

ولكى نستطيع التثبت من صحة هذا النموذج العلمى، فان أحد الفروض العلمية التى يمكن اختبارها يقول بأن مستوى المعرفة لدى الفرد يعتبر أكثر أهمية من المستوى الإجتماعى والاقتصادى له فى تحديد سلوكه. إن تفسير العلاقة التى وجدها الديموجرافيون بين العوامل الإجتماعية والإقتصادية من ناحية، والسلوك الإنجابي من ناحية أخرى، يكمن فى حقيقة أن مستوى المعرفة يصبح أكثر ارتفاعا بين الفئات ذات المستوى المرتفع اقتصاديا وإجتماعيا عنه بين الفئات الأخرى. لذلك فإننا نتوقع أن الفرد ذا المستوى الإجتماعى والاقتصادى المرتفع لن يكون أكثر استعدادا لممارسة تنظيم الأسرة من الفرد ذى المستوى الإجتماعى والاقتصادى المنخفض، إلا إذا كان الأول يتمتع بمستوى من المعرفة يفوق الثانى.

اختبار نموذج المعرفة والتغيير الإجتماعى

الاختبار الأول للنموذج تم نشره فى عام 1981، ولمزيد من اختبار فروض النموذج قام المؤلف بتحليل بيانات ستة أبحاث إجتماعية2 تم إجراؤها فى المجتمع المصرى بين أعوام 1975 و 1982، وان كانت معظم النتائج مترتبة على بحثين أحدهما أجرى فى عام 1980 قبل الحملة الإعلامية والثانى أجرى فى 1982 بعد عامين من بداية تلك الحملة[i].

وقد أسفرت نتائج الدراسة الأولى  عن وجود علاقة وثيقة بين الوضع الإجتماعى والاقتصادى والتعرض لوسائل الإعلام. فبالنسبة للراديو فقد وجدت الدراسة أن 15 فى المائة من مجموع أفراد العينة (2000 أسرة يمثلون جميع سكان الجمهورية من المتزوجين) لا يملكون أجهزة راديو، غير أن هذه النسبة ترتفع إلى 33 فى المائة من ذوى الدخول المنخفضة والى 23 فى المائة من سكان الريف. وبالنسبة للتليفزيون فقد وجدت الدراسة أن 52 فى المائة من العينة يمتلكون أجهزة تليفزيون، ولكن هذه النسبة تنخفض إلى 19 فى المائة فقط من ذوى الدخل المنخفض، والى 27 فى المائة من سكان الريف، والى 42 فى المائة من ذوى المستويات التعليمية المنخفضة. وتزداد الفروق بين الفئات الإجتماعية المختلفة فيما يتعلق بقراءة الصحف والمجلات، فبينما نجد أن 12 فى المائة فقط من ذوى الدخل المنخفض يقرأون الصحف بانتظام، فان 67 فى المائة من ذوى الدخول المرتفعة يقرأون الصحف. وفى الوقت الذى تصل فيه نسبة من يقرأون الصحف من سكان الريف إلى 22 فى المائة فان 68 فى المائة من سكان الحضر يقرأونها.

وهناك أيضا فروق كبيرة بين الفئات الإجتماعية المختلفة فيما يتعلق بالانتظام فى قراءة الصحف، حيث نجد أن نسبة الذين يقرأون الصحف بشكل يومى من بين سكان المدن وذوى الدخول والمستويات التعليمية المرتفعة تفوق بكثير نسبة من ينتمون إلى الريف والى المستويات الإقتصادية والتعليمية المنخفضة. ومن ناحية أخرى، فقد قام المؤلف بتصنيف برامج ومواد الإذاعة والتليفزيون إلى فئتين من حيث المضمون الإعلامي: برامج ذات مستوى معلوماتى مرتفع، وأخرى ذات مستوى معلوماتى منخفض، وتوصل إلى أن الفئات الإجتماعية ذات المستويات الإقتصادية والتعليمية المرتفعة تتعرض أكثر من الفئات الأخرى للبرامج ذات المستوى المرتفع من المعلومات، وينطبق ذلك على برامج الراديو والتليفزيون على السواء. وبصفة عامة فان نسبة الذين يفضلون برامج التليفزيون الغنية بالمعلومات تعد نسبة منخفضة جدا إذا قورنت بمثيلتها فى الراديو، مما يشير إلى أن التليفزيون يمثل أساسا وسيلة ترفيهية بالنسبة للغالبية العظمى من المشاهدين فى مصر.

حالتان تطبيقيتان لنموذج المعرفة والتغيير الإجتماعى

نستعرض هنا حالتين تطبيقيتين لنموذج المعرفة والتغيير الإجتماعى. الحالة الأولى فشل الإعلام فيها فى إحداث أى تأثير فعال، وأدى إلى إحداث فجوة فى المعرفة أو إلى زيادة هوة الفجوة التى كانت موجودة بالفعل، كل ذلك جاء تأكيدا لما توقعته الفروض العلمية المستخلصة من النموذج. أما الحالة الثانية، فقد أحدث فيها الإعلام تأثيرا هائلا، وأدى إلى تضييق فجوة المعرفة بشكل حاسم، وكان ذلك أيضا تأكيدا ثانيا للمبادىء التى يقوم عليها النموذج.

الحالة الأولى: تفسير أسباب فشل حملة تنظيم الأسرة: 1980-1982

النتائج السابقة تثبت صحة  النموذج من حيث قدرته على توقع السلوك والعوامل التى تحدده. وبالإضافة إلى ذلك، فان النموذج يمكن اختباره أيضا من حيث قدرته على توقع نجاح أو فشل الحملات الإعلامية. ولذلك قام المؤلف بتحليل بيانات الدراسة التى أجريت أيضا على عينة تمثل سكان الجمهورية من المتزوجين فى سنة 1982 واشترك فى إجرائها الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، وهيئة الاستعلامات ومركز التنمية الإجتماعية. والسؤال الرئيسى الذى أردنا البحث عن إجابة له هو: هل أتت الحملة الإعلامية عن تنظيم الأسرة التى تمت فى الفترة من 1980 إلى 1982 إلى إحداث أو توسيع فجوة المعرفة والسلوك بين فئات المجتمع المختلفة أم لا؟ لقد ركزت تلك الحملة على نشر أربع رسائل أو “شعارات” أربعة هى: الشعار الجديد لتنظيم الأسرة.

وبالرغم من أن هذه الحملة استمرت لمدة سنتين فان نتائج الدراسة التى أجريت فى 1982 تشير إلى أن نسبة ضخمة من الجمهور لم تتعرض لأى من تلك الرسائل الأربع، وتصل هذه النسبة إلى 44 فى المائة من السكان (1). وكما يتوقع النموذج، فان هذه النسبة تختلف باختلاف الفئات الإجتماعية والإقتصادية. وهكذا، فإنها ترتفع إلى 64 فى المائة من الأميين، 62 فى المائة من سكان الريف، و63 فى المائة من ذوى الدخول المنخفضة. وهكذا فان الحملة الإعلامية عن تنظيم الأسرة، والتى استمرت لمدة سنتين، قد فشلت فى توصيل أية معلومات للغالبية العظمى من الجمهور المستهدف، وأدت إلى إيجاد فجوة كبيرة فى المعرفة بين فئات المجتمع، ويوضح الجدول التالى النسب المئوية للذين وصلتهم كل من الرسائل الأربع من بين فئات المجتمع المختلفة.

يبين الجدول (3) أن هناك إختلافات كبيرة فى مستويات المعرفة بعناصر الحملة الإعلامية بين الفئات الإجتماعية المختلفة. غير أن فجوة المعرفة لم تكن هى الفجوة الوحيدة التى حدثت فى خلال تلك الفترة، بل حدثت أيضا فجوة فى السلوك، ويمكن أن يكون ذلك راجعا، بشكل جزئى على الأقل، لفجوة المعرفة التى أحدثتها الحملة. وعندما نعزل تأثير العوامل الإجتماعية والإقتصادية وغيرها، فإننا نجد أن الحملة الإعلامية قد ساعدت بشكل ضعيف في زيادة نسبة ممارسة تنظيم الأسرة. إلا أن التحليل الدقيق لهذه الزيادة يبين أنها لم تحدث فى الفئات الإجتماعية التى تمثل المشكلة الحقيقية فى مصر، ولا غرابة فى ذلك، فهذه الفئات كانت أقل الفئات تعرضا للرسائل الإعلامية للحملة فى خلال السنتين التى استغرقتهما.

والنتيجة الحتمية إذن هى زيادة فجوة السلوك بين فئات المجتمع المختلفة، حيث أصبح الفارق أكبر بين من يمارسون تنظيم الأسرة من المتعلمين وغير المتعلمين، ومن سكان الحضر وسكان الريف، وبين ذوى الدخول المرتفعة وذوى الدخول المنخفضة، كما يتضح ذلك من جدول رقم 3.

لم تكن فجوة المعرفة والسلوك التى نتجت عن الحملة الإعلامية لتنظيم الأسرة والتى استمرت لمدة سنتين مفاجأة، بل تجىء كنتيجة حتمية لعدم الأخذ بعين الاعتبار ما جاء فى شرح نموذج المعرفة والإتصال والوضع الإجتماعى والاقتصادى وأثر ذلك التفاعل على السلوك. وما زاد الطين بلة أن تلك الحملة ارتكبت أخطاء أخرى مما أدى إلى تفاقم الأسباب التى أدت فى النهاية إلى النتائج سالفة الذكر:

ولابد من حدوث فجوة المعرفة والسلوك كنتيجة حتمية للإعلام التنموى المكثف إلا إذا راعينا فى التخطيط لهذه البرامج عوامل متعددة، نذكر منها على سبيل المثال:

الحالة الثانية: تمكين الحملة القومية لمكافحة الجفاف من عوامل النجاح

كانت الحملة القومية لمكافحة مرض الجفاف والتى بدأت فى عام 1983 تطبيقا عمليا قام به المؤلف لنموذج المعرفة والتغيير الإجتماعى، وتلك هى المرة الأولى التى تنظم فيها حملة إعلامية على المستوى القومى يتم التخطيط لها على أساس هذا النموذج العلمى.

وقد بدأت الحملة الإعلامية بشكل تجريبى فى الإسكندرية لمدة ثلاثى أشهر (أغسطس وسبتمبر وأكتوبر 1983) وذلك باستخدام الإذاعة المحلية لمدينة الإسكندرية بالإضافة إلى عناصر أخرى سيتم تفصيلها فيما بعد. وفى يناير 1984 تطورت الحملة إلى حملة قومية عندما تم استخدام التليفزيون.

قبل الحملة الإعلامية تم إجراء دراسة للتعرف على معلومات واتجاهات وسلوكيات الجمهور المستهدف (ويتكون من أمهات الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ثلاث سنوات)، واتضح من الدراسة أن نسبة الذين لديهم معلومات صحيحة عن علاج الجفاف عن طريق الفم لا تزيد عن واحد ونصف فى المائة. بعد الحملة الإعلامية، قامت منظمة الصحة العالمية بإجراء دراسة على مستوى الجمهورية فى أبريل 1984 اتضح من نتائجها أن 71 فى المائة من عينة البحث يعلمون أن هناك علاجا جديدا للجفاف هو محلول معالجة الجفاف بالفم. الأهم من ذلك هو أن نفس الدراسة وجدت أن 40 فى المائة من الأمهات قاموا بالفعل باستخدام محلول معالجة الجفاف، بعد أن كان الرقم واحدا فى المائة فقط من الأمهات طبقا لنتائج الدراسة التى أجريت قبل الحملة الإعلامية.

لقد قامت الحملة الإعلامية بتوعية وتعليم الأمهات بمفهوم الجفاف وكيفية التغلب عليه من أجل إنقاذ أكثر من مائة وخمسين ألف طفل كانوا يموتون سنويا فى مصر بسبب الجفاف. فبالإضافة إلى الحملة التمهيدية التى بدأت على المستوى القومي فى يناير 1984، فقد تم تنفيذ حملة ثانية فى سبتمبر 1984 هدفها تعليم الأمهات كيفية استخدام محلول معالجة الجفاف بالإضافة إلى الطرق السليمة للتغذية وغيرها من الإجراءات الوقائية. ويهمنا هنا أن نعرف كيف نجحت هذه الحملة الإعلامية فى تحقيق أهدافها، والاستراتيجية الإعلامية التى قامت عليها.

الاستراتيجية الإعلامية للحملة ضد الجفاف

لقد كان من الضرورى، بناء على نموذج المعرفة والتغيير الإجتماعى، أن تأخذ الاستراتيجية الإعلامية للحملة ضد الجفاف حقيقتين بعين الاعتبار: الحقيقة الأولى هى العلاقة القوية بين العوامل الإجتماعية والإقتصادية والعوامل الإعلامية، أما الحقيقة الثانية فهى نوع ومستوى المعلومات لدى الجمهور المستهدف عن أسباب وعلاج الجفاف. فعلى سبيل المثال، كان من الضرورى عدم الاعتماد على الصحافة المكتوبة، فى ضوء ارتفاع نسبة الأمية بين الجمهور المستهدف (الأمهات). أيضا، فان غالبية هذا الجمهور يفضلون الأفلام والمسلسلات التليفزيونية أكثر من أية مواد تليفزيونية أخرى. ويمكن الاستفادة من هذه الحقيقة بطريقتين: الأولى أن الرسالة الإعلامية يمكن أن تكون أكثر تأثيرا إذا صيغت فى شكل درامى، والثانية ضرورة إذاعة إعلانات التوعية فى الفترات الإعلانية التى تسبق إذاعة الأفلام أو المسلسلات. وبالإضافة إلى ذلك، فان خصائص الجمهور المستهدف تستوجب ضرورة توصيل الرسالة باستخدام اللهجة العامية، والبعد عن الاصطلاحات العلمية، واستخدام نفس الكلمات والأوصاف التى تستخدمها الأم العادية فى منزلها. وقد تركزت الرسائل الإعلامية للحملة حول الأنواع الثلاثة للمعرفة التى سبق ذكرها وهى:

عناصر الحملة الإعلامية

تركزت الحملة التمهيدية التى نفذت فى 1983 وأوائل 1984 على توصيل ست رسائل أساسية هى: إعطاء الطفل سوائل بكميات كبيرة أثناء إصابته بالإسهال.

وقد اعتمدت الحملة المحلية فى الإسكندرية على الإذاعة بالإضافة إلى الإتصال الشخصى. كذلك استخدمت الحملة الملصقات والكتيبات والنشرات الدورية لتوصيل المعلومات إلى الأطباء والصيادلة والممرضات. أما الحملة القومية فقد اعتمدت أساسا على إعلانين اثنين تتراوح مدة كل منهما بين دقيقة ودقيقة ونصف، وتمت إذاعة كل منهما لمدة 14 مرة فقط فى خلال مدة الحملة التى استغرقت أربعة أسابيع.

أما الحملة القومية الثانية والتى بدأت فى سبتمبر 1984 فقد أضافت عنصرين هامين إلى عناصر الحملة السابقة، الأول هو كيفية الوقاية من الإسهال، والثانى هو كيفية إذابة المحلول وإعطائه الطفل. واعتمدت هذه الحملة أساسا على ستة إعلانات تليفزيونية تراوحت مدة كل منها بين 45 ثانية ودقيقة واحدة، وتمت إذاعة هذه الإعلانات بمعدل مرة واحدة فى اليوم لكل إعلان لمدة شهرين. كذلك صاحب هذه الإعلانات استخدام البرامج الصحية بالإذاعة والتليفزيون فى تغطية جوانب المشكلة، كما اشتملت الحملة على نشر مقالات وموضوعات صحفية بشكل دورى فى مجلتى طبيبك الخاص وحواء.

نتائج الحملة

لعل من أهم النتائج التى أسفرت عنها الحملة الإعلامية هى تأكيد حقيقة احتياج الجمهور إلى معلومات تقدم إليه بشكل جيد عن مشاكله واحتياجاته فهناك ما يمكن أن نسميه بحالة من “العطش” الشديد للمعلومات لدى الجمهور، ومن الممكن أن يتغير سلوك الجمهور إذا قدمت له تلك المعلومات.

و يبين الجدول التالى مدى تأثير الحملة الإعلامية على المعرفة والسلوك. بناء على الدراسات التى أجريت قبل الحملة وبعدها. ويتضح من الجدول أن تأثير الحملة الإعلامية كان كبيرا للغاية. وأن الزيادة فى المعرفة قد تبعها أيضا تغيير فى السلوك.

وقد تبين من نتائج تقييم الحملة أيضا أن التليفزيون كان أكثر الوسائل تأثيرا. حيث ذكرت الغالبية العظمى من أفراد العينة أنه كان المصدر الرئيسى لمعلوماتهم.

على أن أكثر نتائج الدراسة أهمية من وجهة نظر التغيير الإجتماعى ودور الإعلام فيه هى وجود مؤشرات واضحة للاعتماد بشكل متناقص على استقاء المعلومات من الأقارب وغيرهم كلما زادت المعلومات فى وسائل الإعلام عن موضوع من الموضوعات. فعلى سبيل المثال، بعد الحملة الإعلامية الأولى ارتفعت نسبة الذين قالوا أن معلوماتهم عن الجفاف مأخوذة من التليفزيون، وانخفضت نسبة الذين قالوا أن معلوماتهم مأخوذة عن طريق الإتصال  الشخصى، كما يتضح من الجدول التالى.

يتضح من هذه النتائج أن وسائل الإعلام، وخصوصا التليفزيون، يمكن أن تقوم بدور كبير فى تغيير المعرفة والسلوك، وأنه كلما استخدمت هذه الوسائل بشكل جيد كلما قل الاعتماد على المصادر غير الصحيحة للمعلومات، وقل تأثير الأفراد المحيطين بالفرد على معلوماته وقراراته.

وبصفة عامة، فقد نجح الإعلام عن مشكلة الجفاف لأنه بنى على أسس علمية تمت مراعاتها فى تخطيط الحملة وتنفيذها على السواء، ومن العوامل التى ساعدت على نجاح تلك الحملة مايلى:

كانت الرسالة الإعلامية موحدة فى جميع وسائل الإعلام من إذاعة وتليفزيون ومواد مطبوعة، ومن ثم فقد أدت كل هذه الوسائل دورها فى  تدعيم وتأكيد ما تقوله الوسائل الأخرى، دون إحداث بلبلة إعلامية.

تم تحديد عناصر المعرفة الضرورية للقيام بالسلوك الجديد المطلوب، وتم بناء الرسائل الإعلامية حول هذه العناصر. وكذلك فان الأشكال الإعلامية اختلفت، ولكن المضمون المعلومى للرسائل كان واحدا فى التليفزيون والإذاعة والصحافة وغيرها.

استخدمت الحملة الإعلامية عن الجفاف لغة عامية سهلة تستطيع جميع فئات الجمهور أن تفهمها، وكان ذلك عنصرا أساسيا فى عدم إحداث فجوة معرفية أو سلوكية كنتيجة للحملة.

كيف نجحت الحملة القومية لمكافحة الجفاف فى عدم إحداث فجوة فى المعرفة أو السلوك؟

لقد تم تطبيق مبادىء النموذج الذى تم عرضه فى الفصول السابقة عند تخطيط وتنفيذ الحملة القومية لمكافحة مرض الجفاف فى مصر. وفى خلال فترة لا تتعدى سنة واحدة (من سبتمبر 1983 إلى سبتمبر 1984) ارتفع مستوى المعرفى من مستواه المنخفض جدا قبل الحملة (5,1% كان لديهم وعى بوجود أملاح معالجة الجفاف) إلى 96% بعد الحملة القومية. كذلك ارتفعت نسبة الذين استخدموا العلاج الجديد من أقل من 1% فى سبتمبر 1983 إلى أكثر من 57% بعد ذلك بعام واحد.

إن جدول رقم (7) فى الصفحة التالية يكشف عن حقيقة فى غاية الأهمية: إن الحملة القومية لمكافحة مرض الجفاف قد أوصلت المعلومات إلى جميع الفئات الإجتماعية بنفس الدرجة تقريبا، فسكان الريف والحضر، والمتعلمون والأميون على حد سواء أصبحوا يعرفون نفس المعلومات بعد الحملة الإعلامية.

والفارق الوحيد بين فئات الجمهور المختلفة يتعلق بالاستخدام بين الريف والحضر، وهو فارق يجب أن نسعد به، لأنه يبين أن نسبة الذين استعملوا العلاج الجديد فى الريف تفوق نسبة الذين استعملوه من سكان الحضر، وذلك بالضبط هو ما يجب أن يحدث فى ضوء انتشار المرض فى الريف بنسبة أكثر من انتشاره فى الحضر.

وهناك أسباب عديدة لنجاح هذه الحملة فى عدم إحداث فجوة فى المعرفة أو السلوك كسابقاتها من الحملات الإعلامية فى مجال التنمية الإجتماعية، ولعل من هذه الأسباب استخدام لغة سهلة يفهمها جميع أفراد الجمهور، واستخدام شخصية محببة إلى جميع الفئات الإجتماعية والإقتصادية، كذلك استخدام الأشكال الفنية التى تجذب الجمهور بكافة طبقاته.

وجدير بالذكر أن إذاعة أفلام التوعية بالتليفزيون قد وضع عادات المشاهدة للجمهور فى عين الاعتبار، وتعمد المسئولون عن جدولة إذاعة هذه الأفلام وضعها قبل المسلسلات والأفلام المصرية، وهى مواد تقبل على مشاهدتها جميع فئات الجمهور، وان كان الأقل تعليما وسكان الريف أكثر إقبالا على مشاهدتها من غيرهم، مما أتاح لهم فرصة مشاهدة هذه الأفلام أكثر من غيرهم من الفئات الأكثر حظا من التعليم والمستوى الإقتصادى فى المجتمع.

إن استخدام وسائل الإتصال فى التأثير على معرفة وسلوك الجمهور يجب أن يتم بعد دراسة متأنية لكافة المتغيرات التى حددناها فى نموذج المعرفة والتغيير الإجتماعى، ويجب ألا يغيب عن ذهن المسئول عن استخدام الإتصال أنه أيضا يقوم بدور هام فى الإصلاح الإجتماعى وتوصيل المعرفة لمن هم أكثر حاجة إليها من غيرهم، وليس لمن هم أقرب أو أكثر فهما أو أسهل إقناعا.


[1] هذه الأبحاث الستة هى

  1. National Fertility Survey (1975)
  2. Rural Fertility Survey (1979)
  3. Egyptian Fertility Survey (1980)
  4. The Contraceptive Prevalence Survey (1980)
  5. The Family Planning Communication Baseline Survey (1980)
  6. The Family Planning Communication Follow-up Survey (1982)

Leave a comment